فصل: المسألة الأولى: في قراءة: {إِلاَّ قَلِيلٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

إنه تعالى قال في أول الآية: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} ثم قال بعده: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} وكان ينبغي أن يقال: ومن لم يطعم منه ليكون آخر الآية مطابقًا أولها، إلا أنه ترك ذلك اللفظ، واختير هذا لفائدة، وهي أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ قال أبو حنيفة لا يحنث إلا إذا كرع من النهر، حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث، لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربه متصلًا بذلك الشيء، وهذا لا يحصل إلا بأن يشرب من النهر، وقال الباقون إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث، لأن ذلك وإن كان مجازًا إلا أنه مجاز معروف مشهور.
إذا عرفت هذا فنقول: إن قوله: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي} ظاهره أن يكون النهي مقصورًا على الشرب من النهر، حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلًا تحت النهي، فلما كان هذا الاحتمال قائمًا في اللفظ الأول ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام، فقال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} أضاف الطعم والشرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الإبهام. اهـ.
وقال الفخر:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {غَرْفَةً} بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم، قال أهل اللغة الغرفة بالضم الشيء القليل الذي يحصل في الكف، والغرفة بالفتح الفعل، وهو الاغتراف مرة واحدة، ومثله الأكلة والأكلة، يقال: فلان يأكل في النهار أكله واحدة، وما أكلت عندهم إلا أكلة بالضم أي شيئًا قليلًا كاللقمة، ويقال: الحزة من اللحم بالضم للقطعة اليسيرة منه، وحززت اللحم حزة أي قطعته مرة واحدة، ونحوه: الخطوة والخطوة بالضم مقدار ما بين القدمين، والخطوة أن يخطو مرة واحدة، وقال المبرد: غرفة بالفتح مصدر يقع على قليل ما في يده وكثيره والغرفة بالضم اسم ملء الكف أو ما اغترف به. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد وبآلة، ومنه المِغْرفَة، والغَرْف مثل الاغتراف.
وقرئ: {غَرْفة} بفتح الغين وهي مصدر، ولم يقل اغترافة؛ لأن معنى الغَرْف والاغتراف واحد.
والغَرفة المرة الواحدة.
وقرئ: {غُرْفَة} بضم الغين وهي الشيء المُغْتَرَفُ.
وقال بعض المفسرين: الغَرْفة بالكفِّ الواحد والغُرْفة بالكفَّيْن.
وقال بعضهم: كلاهما لغتان بمعنى واحد.
وقال عليّ رضي الله عنه: الأكُفّ أنْظَفُ الآنية، ومنه قول الحسن:
لا يَدلِفون إلى ماء بآنية ** إلا اغترافًا من الغُدْران بالرّاح

الدلِيف: المشي الرويد.
قلت: ومن أراد الحلال الصِّرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفَّيْه الماء من العيون والأنهار المسخَّرة بالجَرَيَان آناء الليل و{آناء} النهار، مُبْتغيًا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللُّحوق بالأئمة الأبرار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى بن مريم عليهما السّلام إذ طرح القدح فقال أفّ هذا مع الدنيا» خرّجه ابن ماجه من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكَرْع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: «لا يلِغ أحدكم كما يلِغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخِط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مُخَمَّرًا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء».
الحديث كما تقدّم، وفي إسناده بَقِيّة بن الوليد، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو زرعة: إذا حدّث بَقيّة عن الثقات فهو ثقة. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقرأ الحرميان، وأبو عمر، و: {غرفة}، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها، فقيل: هما بمعنى المصدر، وقيل: هما بمعنى المغروف، وقيل: الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما تحمله اليد، فإذا كان مصدرًا فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال: اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفًا، أي: ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولًا به، قال ابن عطية: وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضًا: أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة. اهـ.

.قال الفخر:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه، ويحمل منها.
وأقول: هذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه كان مأذونًا أن يأخذ من الماء ما شاءه مرة واحدة، بغرفة واحدة، بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه وخدمه، ولأن يحمله مع نفسه.
والثاني: أنه كان يأخذ القليل إلا أن الله تعالى يجعل البركة فيه حتى يكفي لكل هؤلاء، وهذا كان معجزة لنبي ذلك الزمان، كما أنه تعالى كان يروي الخلق العظيم من الماء القليل في زمان محمد عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال بعض المفسرين: لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظة، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن عباس: شرِبوا على قدر يقينهم، فشرِب الكفار شرب الهِيمِ وشرِب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا وأخذ بعضهم الغُرْفة، فأما من شرب فلم يَرْوَ، بل برّح به العطش، وأما من ترك الماء فحسُنَت حاله وكان أجْلَد ممن أخذ الغُرفة. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلًا مّنْهُمْ} ففيه مسائل:

.المسألة الأولى: في قراءة: {إِلاَّ قَلِيلٌ}:

قرأ أبي والأعمش {إِلاَّ قَلِيلٌ} قال صاحب الكشاف: وهذا بسبب ميلهم إلى المعنى، وإعراضهم عن اللفظ، لأن قوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} في معنى: فلم يطيعوه، لا جرم حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.

.المسألة الثانية: المقصود من هذا الابتلاء:

قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق، والموافق عن المخالف، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلًا لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذونًا في هذا القتال، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال، لا جرم أقدموا على الشرب، فتميز الموافق عن المخالف، والصديق عن العدو، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد، وقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى، فلم يزيدوا على الاغتراف، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا على لقاء العدو، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى، فقوي قلبهم وصح إيمانهم، وعبروا النهر سالمين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد دل قوله: {فشربوا منه} على قِلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعدَ مجاوزة النهر فقالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم. اهـ.

.قال الفخر:

القليل الذي لم يشرب قيل: إنه أربعة آلاف، والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلًا. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثًا على سؤال العافية وتعريفًا بعظيم رتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه: إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن هي أوسع لي! فقال سبحانه وتعالى: {فلما جاوزه} أي النهر من غير شرب، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى {هو والذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان وجاوزوا {معه} وتراءت الفئتان {قالوا} أي معظمهم.
قال الحرالي: رد الضمير مردًا عامًا إيذانًا بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه- انتهى.
{لا طاقة} مما منه الطوق وهو ما استقل به الفاعل ولم يعجزه {لنا اليوم} أي على ما نحن فيه من الحال {بجالوت وجنوده} لما هم فيه من القوة والكثرة.
قال الحرالي: ففيه من نحو قولهم: {ولم يؤت سعة من المال} اعتمادًا على أن النصر بعدة مال أو قوة، وليس إلا بنصر الله، ثم قال: فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي كما يأتي في {ربنا أفرغ} بما تولى الله من أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو قوله: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} [الأنفال: 11]- الآيات، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عيانًا فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه- انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت والتصريح باسمه، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جُلْيَات كان طوله ستة أذرع وشبرًا، وكان مسلحًا مدرعًا، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجنبهم. اهـ.